سورة الأحزاب - تفسير تفسير ابن كثير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأحزاب)


        


{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)}.
يقول تعالى مخبرا عن أولي العزم الخمسة، وبقية الأنبياء: أنه أخذ عليهم العهد والميثاق في إقامة دين الله، وإبلاغ رسالته، والتعاون والتناصر والاتفاق، كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81] فهذا العهد والميثاق أخذ عليهم بعد إرسالهم، وكذلك هذا. ونص من بينهم على هؤلاء الخمسة، وهم أولو العزم، وهو من باب عطف الخاص على العام، وقد صرَّح بذكرهم أيضا في هذه الآية، وفي قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]، فذكر الطرفين والوسط، الفاتح والخاتم، ومن بينهما على هذا الترتيب. فهذه هي الوصية التي أخذ عليهم الميثاق بها، كما قال: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ}، فبدأ في هذه الآية بالخاتم؛ لشرفه- صلوات الله وسلامه عليه- ثم رتبهم بحسب وجودهم صلوات الله وسلامه عليهم.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة الدمشقي، حدثنا محمد بن بكار، حدثنا سعيد بن بشير، حدثني قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، في قول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} الآية: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث، فَبُدئ بي قبلهم» سعيد بن بشير فيه ضعف.
وقد رواه سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة مرسلا وهو أشبه، ورواه بعضهم عن قتادة موقوفا، والله أعلم.
وقال أبو بكر البزار: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا أبو أحمد، حدثنا حمزة الزيات، حدثنا علي بن ثابت، عن أبي حازم، عن أبى هريرة قال: خيار ولد آدم خمسة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، وخيرهم محمد صلى الله عليه وسلم أجمعين. موقوف، وحمزة فيه ضعف.
وقد قيل: إن المراد بهذا الميثاق الذي أخذ منهم حين أخرجوا في صورة الذّر من صلب آدم، كما قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب قال: ورفع أباهم آدم، فنظر إليهم- يعني: ذريته- وأن فيهم الغني والفقير، وحسن الصورة، ودون ذلك، فقال: رب، لو سويتَ بين عبادك؟ فقال: إني أحببت أن أشكر. وأرى فيهم الأنبياء مثل السرج، عليهم كالنور، وخصوا بميثاق آخر من الرسالة والنبوة، فهو الذي يقول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوح وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} الآية. وهذا قول مجاهد أيضا.
وقال ابن عباس: الميثاق الغليظ: العهد.
وقوله: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ}، قال مجاهد: المبلغين المؤدين عن الرسل.
وقوله: {وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ} أي: من أممهم {عَذَابًا أَلِيمًا} أي: موجعا، فنحن نشهد أن الرسل قد بَلَّغُوا رسالات ربهم، ونصحوا الأمم وأفصحوا لهم عن الحق المبين، الواضح الجلي، الذي لا لبس فيه، ولا شك، ولا امتراء، وإن كذبهم مَنْ كذبهم من الجهلة والمعاندين والمارقين والقاسطين، فما جاءت به الرسل هو الحق، ومَنْ خالفهم فهو على الضلال.


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ (10)}.
يقول تعالى مخبرا عن نعمته وفضله وإحسانه إلى عباده المؤمنين، في صرفه أعداءهم وهزمه إياهم عام تألبوا عليهم وتحزبوا وذلك عام الخندق، وذلك في شوال سنة خمس من الهجرة على الصحيح المشهور.
وقال موسى بن عُقْبة وغيره كانت في سنة أربع.
وكان سبب قدوم الأحزاب أن نفرًا من أشراف يهود بني النضير، الذين كانوا قد أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى خيبر، منهم: سلام بن أبي الحُقَيْق، وسلام بن مِشْكَم، وكنانة بن الربيع، خرجوا إلى مكة واجتمعوا بأشراف قريش، وأَلّبوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعدوهم من أنفسهم النصر والإعانة. فأجابوهم إلى ذلك، ثم خرجوا إلى غطفان فدعوهم فاستجابوا لهم أيضا. وخرجت قريش في أحابيشها، ومن تابعها، وقائدهم أبو سفيان صخر بن حرب، وعلى غطفان عُيَينة بن حصن بن بدر، والجميع قريب من عشرة آلاف، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسيرهم أمر المسلمين بحفر الخندق حول المدينة مما يلي الشرق، وذلك بإشارة سلمان الفارسي، فعمل المسلمون فيه واجتهدوا، ونقل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب وحفَر، وكان في حفره ذلك آيات بينات ودلائل واضحات.
وجاء المشركون فنزلوا شرقي المدينة قريبا من أحد، ونزلت طائفة منهم في أعالي أرض المدينة، كما قال الله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ}، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن معه من المسلمين، وهم نحو ثلاثة آلاف، وقيل: سبعمائة، وأسندوا ظهورهم إلى سَلْع ووجوههم إلى نحو العدو، والخندق حفير ليس فيه ماء بينهم وبينهم يحجب الرجالة والخيالة أن تصل إليهم، وجعل النساء والذراري في آطام المدينة، وكانت بنو قريظة- وهم طائفة من اليهود- لهم حصن شرقي المدينة، ولهم عهد من النبي صلى الله عليه وسلم وذمة، وهم قريب من ثمانمائة مقاتل فذهب إليهم حُيَيّ بن أخطب النَّضَري اليهودي، فلم يزل بهم حتى نقضوا العهد، ومالؤوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعَظُم الخَطْب واشتد الأمر، وضاق الحال، كما قال الله تعالى: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا}.
ومكثوا محاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قريبًا من شهر، إلا أنهم لا يصلون إليهم، ولم يقع بينهم قتال، إلا أن عمرو بن عبد ودّ العامري- وكان من الفرسان الشجعان المشهورين في الجاهلية- ركب ومعه فوارس فاقتحموا الخندق، وخلصوا إلى ناحية المسلمين، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم خيل المسلمين إليه، فلم يبرز إليه أحد، فأمر عليا فخرج إليه، فتجاولا ساعة، ثم قتله علي، رضي الله عنه، فكان علامة على النصر.
ثم أرسل الله عز، وجل، على الأحزاب ريحًا شديدة الهبوب قوية، حتى لم تبق لهم خيمة ولا شيء ولا تُوقَد لهم نار، ولا يقر لهم قرار حتى ارتحلوا خائبين خاسرين، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا}.
قال مجاهد: وهي الصبا، ويؤيده الحديث الآخر: «نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور».
وقال ابن جرير: حدثني محمد بن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا داود، عن عِكْرمة قال: قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب: انطلقي ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت الشمال: إن الحرة لا تسري بالليل. قال: فكانت الريح التي أرسلت عليهم الصبا.
ورواه ابن أبي حاتم، عن أبي سعيد الأشَجّ، عن حفص بن غياث، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس، فذكره.
وقال ابن جرير أيضا: حدثنا يونس، حدثنا ابن وَهْب، حدثني عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن عبد الله بن عمر قال: أرسلني خالي عثمان بن مَظْعون ليلة الخندق في برد شديد وريح إلى المدينة، فقال: ائتنا بطعام ولحاف. قال: فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذن لي، وقال: «من أتيت من أصحابي فمرهم يرجعوا». قال: فذهبت والريح تسفي كل شيء، فجعلت لا ألقى أحدا إلا أمرته بالرجوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فما يلوي أحد منهم عنقه. قال: وكان معي ترس لي، فكانت الريح تضربه عليّ، وكان فيه حديد، قال: فضربته الريح حتى وقع بعض ذلك الحديد على كفي، فأنفدها إلى الأرض.
وقوله: {وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} وهم الملائكة، زلزلتهم وألقت في قلوبهم الرعب والخوف، فكان رئيس كل قبيلة يقول: يا بني فلان إليَّ. فيجتمعون إليه فيقول: النجاء، النجاء. لما ألقى الله تعالى في قلوبهم من الرعب.
وقال محمد بن إسحاق، عن يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القُرَظِيّ قال: قال فتى من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبد الله، رأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه؟ قال: نعم يا ابن أخي. قال: وكيف كنتم تصنعون؟ قال: والله لقد كنا نجهد. قال الفتى: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض ولحملناه على أعناقنا. قال: قال حذيفة: يابن أخي، والله لو رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هُوِيّا من الليل، ثم التفت فقال: «مَنْ رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم؟- يشرط له النبي صلى الله عليه وسلم أنه يرجع- أدخله الله الجنة». قال: فما قام رجل. ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هويًّا من الليل ثم التفت إلينا، فقال مثله، فما قام منا رجل. ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هُويًّا من الليل ثم التفت إلينا فقال: «من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع- يشترط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجعة- أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة». فما قام رجل من القوم؛ من شدة الخوف، وشدة الجوع، وشدة البرد. فلما لم يقم أحد، دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني فقال: «يا حذيفة، اذهب فادخل في القوم فانظر ما يفعلون، ولا تُحْدثَنّ شيئا حتى تأتينا». قال: فذهبت فدخلت في القوم، والريح وجنود الله، عز وجل، تفعل بهم ما تفعل، لا تُقِرّ لهم قِدْرًا ولا نارًا ولا بناءً، فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش، لينظر امرؤ مَنْ جليسه. قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذي إلى جنبي، فقلت: مَنْ أنت؟ فقال: أنا فلان بن فلان، ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكُرَاع والخُفّ، وأخلفتنا بنو قريظة، وبَلَغَنا عنهم الذي نكره، ولقينا من هذه الريح الذي ترون. والله ما تطمئن لنا قدر، ولا تَقُوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا، فإني مُرْتَحل، ثم قام إلى جَمَله وهو معقول، فجلس عليه، ثم ضربه، فوثب به على ثلاث، فما أطلق عقَالَه إلا وهو قائم. ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي: «ألا تحدث شيئا حتى تأتيني» ثم شئتُ، لقتلته بسهم.
قال حذيفة: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي في مِرْط لبعض نسائه مُرَحل، فلما رآني أدخلني بين رجليه، وطرح علي طرف المرْط، ثم ركع، وسجد وإني لفيه، فلما سَلَّم أخبرته الخبر، وسمعت غَطَفان بما فعلت قريش، فانشمروا راجعين إلى بلادهم.
وقد رواه مسلم في صحيحه من حديث الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال: كنا عند حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه، فقال له رجل: لو أدركتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاتلتُ معه وأبليتُ. فقال له حذيفة: أنت كنتَ تفعل ذلك؟ لقد رَأيتُنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب في ليلة ذات ريح شديدة وقُرّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا رجل يأتي بخبر القوم، يكون معي يوم القيامة؟». فلم يجبه منا أحد، ثم الثانية، ثم الثالثة مثله. ثم قال: «يا حذيفة، قم فأتنا بخبر من القوم». فلم أجد بدَّا إذ دعاني باسمي أن أقوم، فقال: «ائتني بخبر القوم، ولا تَذْعَرْهم عَلَيّ». قال: فمضيت كأنما أمشي في حَمام حتى أتيتهم، فإذا أبو سفيان يَصْلَى ظهره بالنار، فوضعت سهما في كَبِِد قوسي، وأردت أن أرميَه، ثم ذكرتُ قولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تَذْعَرْهم عَلَيَّ»، ولو رَمَيْته لأصبته. قال: فرجعت كأنما أمشي في حَمّام، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أصابني البرد حين فَرَغتُ وقُررْتُ فأخبرتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألبسني من فضل عَبَاءَة كانت عليه يصلي فيها، فلم أزل نائما حتى الصبح، فلما أن أصبحت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قم يا نومان».
ورواه يونس بن بُكَيْر، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم: أن رجلا قال لحذيفة، رضي الله عنه: نشكو إلى الله صحبتكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إنكم أدركتموه ولم ندركه، ورأيتموه ولم نره. فقال حذيفة: ونحن نشكو إلى الله إيمانكم به ولم تروه، والله لا تدري يا بن أخي لو أدركتَه كيف كنتَ تكون. لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الخندق في ليلة باردة مَطِيرة.... ثم ذكر نحو ما تقدم مطولا.
وروى بلال بن يحيى العَبْسي، عن حذيفة نحو ذلك أيضا.
وقد أخرج الحاكم والبيهقي في الدلائل، من حديث عكرمة بن عمار، عن محمد بن عبد الله الدؤلي، عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة قال: ذَكَر حذيفة مشاهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال جلساؤه: أما والله لو شهدنا ذلك لكنا فعلنا وفعلنا. فقال حذيفة: لا تمنوا ذلك. لقد رأيتُنا ليلة الأحزاب ونحن صافُّون قُعود، وأبو سفيان ومَنْ معه من الأحزاب فوقنا، وقريظة اليهود أسفل منا نخافهم على ذرارينا، وما أتَت علينا قطّ أشدّ ظلمةً ولا أشد ريحًا، في أصوات ريحها أمثال الصواعق، وهي ظلمة ما يرى أحدنا إصبعه، فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون: «إن بيوتنا عورة وما هي بعورة». فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له، ويأذن لهم فيتسللون، ونحن ثلاثمائة ونحو ذلك، إذ استقبلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم رَجُلا رجلا حتى أتى عَلَيّ وما عَلَيّ جُنَّة من العدو ولا من البرد إلا مِرْط لامرأتي، ما يجاوز ركبتي. قال: فأتاني صلى الله عليه وسلم وأنا جَاثٍ على ركبتي فقال: «مَنْ هذا؟» فقلت: حذيفة. قال: «حذيفة». فتقاصرت بالأرض فقلت: بلى يا رسول الله، كراهية أن أقوم. قال: قم، فقمت، فقال: «إنه كائن في القوم خبر فأتني بخبر القوم»- قال: وأنا من أشد الناس ا فزعًا، وأشدهم قُرًّا- قال: فخرجت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم، احفظه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته». قال: فوالله ما خلق الله فزعا ولا قرّا في جوفي إلا خرج من جوفي، فما أجد فيه شيئا. قال: فلما وليت قال: «يا حذيفة، لا تُحدثَنّ في القوم شيئًا حتى تأتيني». قال: فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت في ضوء نار لهم تَوَقَّدُ، وإذا رجل أدهم ضخم يقول بيده على النار، ويمسح خاصرته، ويقول: الرحيلَ الرحيلَ، ولم أكن أعرف أبا سفيان قبل ذلك، فانتزعت سهما من كنانتي أبيض الريش، فأضعه في كَبِِد قوسي لأرميه به في ضوء النار، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحدثن فيهم شيئا حتى تأتيني»، فأمسكت ورددت سهمي إلى كنانتي، ثم إني شَجَّعت نفسي حتى دخلت العسكر، فإذا أدنى الناس مني بنو عامر يقولون: يا آل عامر، الرحيلَ الرحيلَ، لا مُقام لكم. وإذا الريح في عسكرهم ما تجاوز عسكرهم شبرا، فوالله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وَفَرَسَتْهُمُ الريح تضربهم بها، ثم خرجت نحو النبي صلى الله عليه وسلم، فلما انتصفت في الطريق أو نحوا من ذلك، إذا أنا بنحو من عشرين فارسًا أو نحو ذلك مُعْتَمّين، فقالوا: أخْبر صاحبك أن الله تعالى كفَاه القوم. فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مشتمل في شملة يصلي، فوالله ما عدا أن رجعت رَاجَعَني القُرُّ وجعلت أقَرْقفُ، فأومأ إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وهو يصلي، فدنوت منه، فأسبل علي شملته. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبه أمر صلى، فأخبرته خبر القوم، وأخبرته أني تركتهم يترحلون، وأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا}.
وأخرج أبو داود في سننه منه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا حزبه أمر، من حديث عكرمة بن عمار، به.
وقوله: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ} أي: الأحزاب {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} تقدم عن حذيفة أنهم بنو قريظة، {وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} أي: من شدة الخوف والفزع، {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا}.
قال ابن جرير: ظن بعض مَنْ كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الدائرة على المؤمنين، وأن الله سيفعل ذلك.
وقال محمد بن إسحاق في قوله: {وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا}: ظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق حتى قال مُعَتّب بن قشير- أخو بني عمرو بن عوف-: كان محمد يَعِدُنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يقدر على أن يذهب إلى الغائط.
وقال الحسن في قوله: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ}: ظنون مختلفة، ظن المنافقون أن محمدا وأصحابه يستأصلون، وأيقن المؤمنون أن ما وعد الله ورسوله حق، وأنه سيظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عاصم الأنصاري، حدثنا أبو عامر (ح) وحدثنا أبي، حدثنا أبو عامر العقدي، حدثنا الزبير- يعني: ابن عبد الله، مولى عثمان بن عفان- عن ُرَتْيج بن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي سعيد قال: قلنا يوم الخندق: يا رسول الله، هل من شيء نقول، فقد بلغت القلوب الحناجر؟ قال صلى الله عليه وسلم: «نعم، قولوا: اللهم استر عوراتنا، وآمن رَوْعاتنا». قال: فضرب وجوه أعدائه بالريح، فهزمهم بالريح.
وكذا رواه الإمام أحمد بن حنبل، عن أبي عامر العقدي.


{هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا (13)}
يقول تعالى مخبرًا عن ذلك الحال، حين نزلت الأحزاب حول المدينة، والمسلمون محصورون في غاية الجهد والضيق، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم: أنهم ابتُلوا واختُبروا وزلزلوا زلزالا شديدا، فحينئذ ظهر النفاق، وتكلم الذين في قلوبهم مرض بما في أنفسهم.
{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا} أما المنافق، فنجم نفاقه، والذي في قلبه شبهة أو حَسِيْكَة، ضَعُف حاله فتنفس بما يجده من الوسواس في نفسه؛ لضعف إيمانه، وشدة ما هو فيه من ضيق الحال.
وقوم آخرون قالوا كما قال الله: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ} يعني: المدينة، كما جاء في الصحيح: «أريت في المنام دارَ هجرتكُم، أرض بين حَرّتين فذهب وَهْلي أنها هَجَر، فإذا هي يثرب»، ش وفي لفظ: «المدينة».
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن مهدي، حدثنا صالح بن عمر، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سَمَّى المدينة يثرب، فليستغفر الله، هي طابة، هي طابة».
تفرد به الإمام أحمد، وفي إسناده ضعف، والله أعلم.
ويقال: إنما كان أصل تسميتها يثرب برجل نزلها من العماليق، يقال له: يثرب بن عبيل بن مهلابيل بن عوص بن عملاق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح. قاله السهيلي، قال: وروي عن بعضهم أنه قال: إن لها في التوراة أحد عشر اسما: المدينة، وطابة، وطيبة، المسكينة، والجابرة، والمحبة، والمحبوبة، والقاصمة، والمجبورة، والعذراء، والمرحومة.
وعن كعب الأحبار قال: إنا نجد في التوراة يقول الله للمدينة: يا طيبة، ويا طابة، ويا مسكينة لا تقلي الكنوز، أرفع أحاجرك على أحاجر القرى.
وقوله: {لا مُقَامَ لَكُمْ} أي: هاهنا، يعنون عند النبي صلى الله عليه وسلم في مقام المرابطة، {فَارْجِعُوا} أي: إلى بيوتكم ومنازلكم. {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ}: قال العوفي، عن ابن عباس: هم بنو حارثة قالوا: بيوتنا نخاف عليها السَّرَقَ.
وكذا قال غير واحد.
وذكر ابن إسحاق: أن القائل لذلك هو أوس بن قَيظيّ، يعني: اعتذروا في الرجوع إلى منازلهم بأنها عَورة، أي: ليس دونها ما يحجبها عن العدو، فهم يخشون عليها منهم. قال الله تعالى: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} أي: ليست كما يزعمون، {إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا} أي: هَرَبًا من الزحف.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8